تُعد الأسئلة التي يثيرها العقل الحضاري في لحظات تاريخية معينة أهم من الإجابات التي يسعى لتقديمها؛ ذلك أن بذل الجهد في الإجابة المتأنية المدققة على أسئلة خاطئة في جوهرها هو العثرة التي يقع فيها الفكر في مرحلة تاريخية ما، وتصبح إعادة النظر في الأسئلة ذاتها ومراجعة المسلّمات و الموضوعات التي استقر عليها هي بداية النهضة ومفتاح التجديد المنشود.
وما تطوُّر العلم الاجتماعي وتجاوزه مرحلة تلو الأخرى في حقيقة الأمر إلا نتاجُ تأملات ونظرات لأئمة جددوا في منطلقات و موضوعات وأدوات العلم، خاصة إذا أدركنا أن علاقة المنهج العلمي بالواقع في الرؤية الإسلامية لا تقف عند حدود الاستجابة لتطوره ورصده، بل تتجاوز ذلك إلى التأثير في هذا الواقع وتقويمه والوقوف منه موقف المسئولية.
ويلاحظ الباحث في النظرية السياسية المعاصرة في بلدان العالم الإسلامي الانشطار الواضح الذي يعاني منه العقل السياسي الإسلامي بين مدرسة تتبنى النظرية الفقهية التقليدية، ولا تخرج في جوهر منهاجيتها عن منهاجية و موضوعات كتب السياسية الشرعية القديمة، باستثناء بعض المحاولات القليلة للإضافة والتجديد في التحليل، وليس في المنهاجية أو الفلسفة أو الموضوعات المستقر عليها.
ومدرسة ثانية تسعى إلى بناء نظرية سياسية باللجوء إلى تبني المنهاجية الغربية والمفاهيم المعتمدة، والسعي إلى إثبات اتفاقها مع مبادئ نظام الحكم في الإسلام؛ من حزبية، وشكل للدولة، وأنظمة للحكم، دون محاولة لتأصيل رؤية إسلامية مستقلة إلا فيما ندر.
وتقف بين المدرستين فئة قليلة من الباحثين تسعى إلى تحقيق الربط المفقود بين المنهاجيتين واستيعاب لغة الفريقين.
ولعل أبرز أسباب هذا الانشطار والاستقطاب هو النظام التعليمي في الدول الإسلامية الذي يغلب عليه النظام الغربي في كليات العلوم الاجتماعية؛ فلا يدرس طلابها ولو نبذة عن العلوم الشرعية، في حين يدرس طلاب السياسية الشرعية الفقه والعلوم الشرعية دون أدنى معرفة بالنظرية السياسية الغربية، ولذا يبقى الفريقان في انفصال وانفصام لا يجمعهما حد أدنى من الثقافة أو حتى الاحتكاك الأكاديمي.
وتظل الفئة الوسيطة التي تسعى لتجسير الفجوة، فئة من الذين تخرجوا -في الأغلب- في كليات العلوم الاجتماعية المدنية، وسعوا بجهد شخصي إلى تحصيل العلم الشرعي دون دعم من مؤسساتهم الأم.
وهي فئة تنظر إليها مؤسساتها الأكاديمية نظرة استغراب، بل واستنكار، وتنظر إليها الكليات الشرعية نظرة ريبة وشك، ويبقى جهدها -رغم جديته- خارج التيار العام للمدرستين.
ويبرز التحدي أمام العقل السياسي الإسلامي المعاصر في تناوله للموضوعات المختلفة المطروحة على الساحة الفكرية؛ حيث يصبغ أجندته واهتماماته هذا الاستقطاب، ويظهر ذلك جليًّا عند تناول موضوع التعددية السياسية والحرية.
الإدارة السياسية للاختلاف.. تساؤلات ما قبل المنهج
قبل أن نشرع في التفكير نتساءل: هل نحن نفكر وفق أولوياتنا أم استجابة لأسئلة مطروحة من خارج سياقاتنا، فرضتها علينا العولمة ومنظوماتها الفكرية؟
لا أجادل هنا في أن التنوع والتعدد من المقومات الأساسية في أي مجتمع إنساني، ولكن المراجعة تنصبّ على فكرة الدلالة أولاً؛ أي ما يعنيه السؤال، واتجاهات الإجابة، وخريطتها المطروحة، ومساحات المفهوم الدلالية.
وثانيًا أولوية هذه الخريطة في سياقنا الفكري؛ أي أولوية السؤال في جدول همومنا الحياتية وفق التصورات المعينة للقضية المقترحة، أو المتوهمة، أو المصنوعة/الأسطورة (كالعديد من أساطير الحداثة المستقرة).
وبدايةً فإن إيماننا يتأسس على أن الاختلاف سنة من سنن الله في المجتمعات؛ فهناك اختلاف في اللسان واللون والمذهبية والدين والرأي، ولا يشغل الباحث في العلوم الاجتماعية صوابُ أو خطأُ الخلاف أو مقومات الاختلاف؛ لأن الحكم عليها إنما هو لله، يوم يُرد الناس إلى الله.. بل يشغل باحث السياسة والاجتماع والاقتصاد كيفية إدارة المجتمعات الإنسانية لهذا الاختلاف بدرجاته، ودراسة ومقارنة تصورها العقيدي/الأيديولوجي لطبيعته وحدوده وضوابطه، أما اختيار سبل الإدارة المثلى لمجتمع ما فشأن كل أفراده وفق مستويات الشورى والاستشارة المؤسسية والعرفية، الهيكلية والاجتماعية اليومية الحياتية.
التعدد ليس "التعددية"
وتجدر في هذا السياق التفرقة بين التعدد والاختلاف كمفاهيم، وبين "التعددية" كمصطلح سياسي في علم السياسة الغربي الليبرالي السائد تحديدًا؛ فالتعدد –كمفهوم- يرادف التنوع والتفاوت والاختلاف، في حين أن "التعددية" كمصطلح هي نظامٌ سياسيٌّ له خلفية تاريخية وفلسفية ترتبط بإدراك دور الدولة وطبيعة المواطنة، بل وطبيعة الإنسان، وصيغ العقد الاجتماعي وقضاياه ونظامه الاقتصادي.
كما أن لذاك النظام ملامح مؤسسية ثابتة متفقًا عليها، ويقترن بتطور اقتصادي واجتماعي محدد، ومناخ ثقافي يقوم على الفصل بين الدين والدولة، ويهدف إلى إدارة الصراع الاجتماعي الممتد دون مرجعية فكرية واحدة تجمع الأفراد والجماعات، سوى مبدأ قبول التعدد ذاته وإجراءات إدارته، مع تنامي الهويات الناشئة والمصطنعة، وليست المكتسبة في مواجهة مرجعيات سائدة أو تاريخية.
ورغم أن "التعددية" كمصطلح تعبر عن صيغة واحدة فقط هي شكل الممارسة الليبرالية الديمقراطية الحزبية في بعض أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ورغم أن التعددية الحزبية تحديدًا هي أحد أنماط التعددية السياسية عامة وليست النمط الأوحد.. فإن كثيرًا من الجدل الدائر على الساحة الأكاديمية والفكرية الإسلامية بشأن النظام الإسلامي يدور حول الحزبية، ومدى موافقتها للمبادئ الإسلامية أو تفضيل فكرة أهل الحل والعقد، دون بلورتها وتجديدها، ويصطبغ هذا الجدل بالانقسام السالف الإشارة إليه.
ففي ناحية يقف فريقٌ يؤيد الحزبية، وآلية الانتخابات التمثيلية، ويراها ضمانًا لتداول السلطة وعدم الاستبداد، ووسيلة لإدارة الاختلافات السياسية، وصيانة للحقوق والحريات العامة.. وإحدى الأدوات التي نجحت في الغرب في ضمان المساواة والحرية والتعبير عن الرأي، والرقابة على السلطة الحاكمة.
وفي ناحية أخرى يقف فريقٌ يرى الحزبية مدخلاً للفُرقة، وتحكيمًا للقوى السياسية في مقابل تحكيم الشريعة، وسببًا لعدم الاستقرار السياسي في الدولة الإسلامية، ونظامًا غربيًّا يرتبط بالتجربة التاريخية الغربية، في حين أنه لا يصلح في النظام السياسي الإسلامي.
وليست مهمة هذا المدخل الخوض في الجدل، ومناقشة أطروحات كل فريق.. لكننا نلاحظ -مجملاً- على منحى الجدل ما يلي:
1- أن كلا الفريقين -رغم الخلاف- قد ارتضى الحزبية أرضيةً للجدل، ولم يحاول أحد الطرفين نقل الجدل والاختلاف إلى مساحة جديدة، ووحدات اجتماعية وأشكال إدارية أخرى للتعامل مع التعدد والاختلاف السياسي والاجتماعي؛ فكأن الطرفين قد ارتضيا السؤال رغم اختلاف الإجابة، ولم يحاولا طرح أسئلة جديدة.. فتمسك الأول بشكل واحد من أشكال التعددية أو الممارسة الديمقراطية في الغرب، ورفض الثاني نقل أي تجارب في الإدارة السياسية من الغرب، متجاهلاً أشكالاً للمشاركة السياسية بلورها الغرب.
ويفيد الباحث الإسلامي الاطلاع عليها لاستكشاف البُعد الإنساني الاجتماعي المشترك العام فيها، كالنظام التعاضدي -على سبيل المثال- الذي يقوم على وجود جماعات مصالح متعددة الحجم، ومتفاوتة الترتيب من حيث القوة في المجتمع، تتداخل مع الدولة.. حيث تعد الأخيرة عنصرًا فاعلاً، وليست مجرد ساحة صراع أو طرف فيه.
ويلعب القانون دورًا محوريًّا في هذا النظام الذي يتميز عن التعددية من جهة، والاستبداد من جهة أخرى. لكن بقي في بعض الأدبيات السياسية قرين الفاشية؛ لأنه طُبق فيها ولم يلق في العالم العربي اهتمامًا يُذكر، رغم تزايد الاهتمام النظري به في الغرب، ونجاحه في مجتمعات تنتمي إلى مجتمعات المذهب الليبرالي، مثل النمسا.
2- أن الفريق الأول لم يتابع تطور الحزبية في بلدانها ذاتها، بل اكتفى بالأطروحات العامة التقليدية عن دور الحزب نظريًّا، ومميزات النظم الحزبية، غير مدرك للانتقادات التي يتعرض لها نظام التعددية الحزبية نظريًّا، بل فكرة النيابية والتمثيل السياسي برمته، والمشكلات التي يواجهها عمليًّا بعد خبرة تاريخية ليست بالقليلة، أبرزها العزوف السياسي للمواطنين، وتدني نسب المشاركة في الانتخابات في العديد من الدول الأوروبية، بل والولايات المتحدة. أما الفريق الثاني فقد اكتفى بتقديم فكرة أهل الحل والعقد، كآلية الشورى، وصنع القرار في الدولة الإسلامية دون تفصيل اجتهاد معاصر لمؤسسات الشورى التي يمكن بناؤها في الدولة الإسلامية، باستثناء كتابات قليلة، أبرزها كتاب الدكتور "توفيق الشاوي" القيّم عن الشورى والاستشارة.
وتراوح موقف العلماء المتخصصين في السياسة الشرعية بين الرفض الصريح للحزبية أو إسقاطها كلية من التناول تجاهلاً -أو حتى جهلاً- بحجج قوية يمكن تقديمها لو علم أهل هذا الفريق جوانب قصور التعددية.
3- أن الفريقين ربطَا التعددية السياسية بالسلطة وليس بالمجتمع؛ وهو ما يعني -ولو بشكل كامن- تبنّي إدراك السياسة باعتبارها "علم السلطة" أو طريقة إدارة السلطة في المجتمع وتأسيسها على القوة.. وهي نظرة تختلف عن النظرة الإسلامية التي تؤسس السياسية على المصلحة، وتربطها بالأمة وليس بالحكومة أو نظام الحكم؛ فالتعددية السياسية أوسع نطاقًا من تعدد الرأي على مستوى النخبة السياسية، أو تعدد المنحى السياسي لتعدد إدراك المصلحة القومية.. ففي الرؤية الإسلامية يرتبط المفهوم (وليس المصطلح) بطبيعة المجتمع الإسلامي العضوية، وأشكال وأنماط ودرجات الاختلاف وأشكال إدارتها.