تلك الصورة المجاورة هي صورة امرأة فلسطينية لا نعرفها.. تقف في أقصى اليسار والباقون جزء من أبنائها وأحفادها ..لا يهم أن تكون هذه المرأة زينب أو سلمى أو مريم .. المهم أنها امرأة من فلسطين: الانتفاضة والجهاد.. تمنح الوطن أعز ما يملك .. أبناءه.
في ذكري احتلال الأرض واغتصاب فلسطين تتذكر ثلاثة أجيال من أسرة فلسطينية الوطن.. وتعكس مشاعرها عبر السنين.. وتتطلع للعودة إلى البيت الذي ننشر صورته.. وما زال مغتصباً في صفد.. مثل آلاف البيوت في يافا واللد وعكا وحيفا والناصرة.
الجدة.." سميحة التنير": فلسطين..انتماء وهوي
جدتي الحبيبة سميحة.. أود أن أحكي عنك لكل الناس، فمكانتك الخاصة عندي لم تأتِ من فراغ فمنذ الطفولة ولديك من الحلويات والهدايا ما يسعدني دومًا، ومن القصص ما يبهرني ويشوِّقُنِي لسماع المزيد.. ذكريات لبنان وفلسطين، قصص الأنبياء التي كنتِ ترويها لي بكل حب، شرائط فيروز وأغنيات خالتي زينب.. كلها ذكريات لا تُنْسَى، إفطارُكِ اللذيذ من المناقيش والزيت والزعتر واللبنة، مراسم الصباح والخاصة بالصلاة وقراءة القرآن والدعاء لزوجك الراحل ولكل أبنائك وأحفادك.. لك صوت جميل في قراءة القرآن خاصة ختم القرآن... أنا لم أَرَ جدي وذلك لأنه تُوُفِّيَ وأنا رضيعة، ولكني أذهب معكِ كل عام لزيارته ومعنا باقة زهور مبهجة عند حلول ذكرى رحيله.. علمتني معنى الوفاء وأشياء أخرى كثيرة..
ولدت جدتي في بيروت من أب وأم لبنانيين، تزوجت فلسطيني وعاشت في فلسطين في الفترة 1937 - 1946 (لمدة تسع سنوات) بعدها انتقلت للإسكندرية نظرًا لظروف عمل جدي وحتى اليوم، أي أربعة وخمسون عامًا تقول جدتي: " أنا لبنانية الأصل، فلسطينية الهوية ومصرية الانتماء.. فأخوتي وأبناؤهم وأحفادهم مازالوا في لبنان، وفي مصر كل ذكرياتي وأيامي الجميلة، وزوجي رحمه الله غَرَسَ في قلبي حب فلسطين..
بالتأكيد أن ذكرى اغتصاب فلسطين أو قيام دولة إسرائيل هو تاريخ مؤلم، ولكنه يحيي داخلي كثير من الذكريات والأحداث العزيزة على قلبي والتي هي بالتأكيد ذكريات حزينة … فمنذ النكبة والخروج الأول عام 1948م بدأت العمل من أجل فلسطين.
كان زوجي ينتظر النازحين من فلسطين في شهر مايو عام 1948م في ميناء الإسكندرية؛ ليساعدهم على إيجاد مأوى لهم وقد أطلق عليه أكثر من مرة في جرائد تصدر باللغة الفرنسية في الإسكندرية في ذلك الوقت قنصل فلسطين ينتظر في الميناء، ولكنه كان مديرًا للبنك العربي في الإسكندرية. تعرَّف عليه الفلسطينيون النازحون إلى الإسكندرية وكان يحتفظ بأسماء العائلات وأماكن سكنهم وأعدادهم وكان يقوم بجمع التبرعات من أجل العائلات البسيطة التي لم يكن لها مصدر دخل بعد أن فقدوا البيت والعائل والمدخرات.
وكنت أقوم بشكل شخصي بالذهاب إلى المناطق الشعبية المعروفة بتواجد الفلسطينيون بها مثل الأنفوشي والأزاريطه للسؤال عن العائلات الجديدة التي وصلت إلى المنطقة للتعرف عليهم وعلى ظروفهم لإمكان مساعدتهم ماديًّا ومعنويًّا. أذكر جيدًا أني - ولسنوات طويلة - لم أكن أقضي ليلة العيد في منزلي مع زوجي وبين أبنائي ولكن مع هذه العائلات لتوزيع ملابس العيد، والأضحية، والعيدية عليهم ولم أكن أعود قبل العاشرة أو الحادية عشرة مساءً.
لكن أراد زوجي أن يكون هناك مكان ليتجمع فيه كل الفلسطينيين ليلتقوا ويحتفلوا في المناسبات الوطنية أو ليستمعوا إلى محاضرة، أو لمساعدة الطلبة في دفع مصاريفهم الدراسية أو لإعانة العائلات المحتاجة. وعليه أنشأ زوجي - علي شعث – نادي فلسطين الذي قمنا بتأثيثه من أشيائنا الخاصة، فلقد أخذ البيانو الخاص بنا وأهداه لمقر النادي كما نقل لوحات وصور ومفارش وكثير من الأشياء .. ومنذ إنشاء النادي وأصبحت العائلات المحتاجة تأتي لمقر النادي لتلقي المعونة اللازمة لها، وقد كنت وسيدتين أخريين مسئولات عن النشاط الاجتماعي بالنادي وذلك لسنوات طويلة لا أذكر عددها.. ".
تُوُفِّي زوجي العزيز - والحديث على لسان جدتي – وأبنائي في سن الشباب وذلك بعد أن ربَّاهم وغرس فيهم الولاء والانتماء وحب الوطن وعلَّمنا جميعًا كيف يكون النضال..
تزوج أبنائي وبناتي في حياة والدهم من مصريين ومصريات، ولم يجد في هذا أي مانع؛ وذلك لأنه على يقين من أن ما غرسه في نفوسهم وعقولهم سيعيش معهم أبدًا.. وقد كان على حق فابني نبيل عاد ليعيش في غزة؛ ليشارك في بناء وطنه مع أهله هناك، وابنتي ميسون تشارك في الدفاع عن قضية وطنها من خلال مشاركتها في العمل في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، أما نديم ونهى وزينب فلكل منهم دوره الذي يؤديه في سبيل الدفاع عن وطنه والحفاظ على تراثه.
ذكريات جدتي لا تنتهي ولكن قاطَعَنا صوت فيروز في المذياع…
راجعون.. راجعون.. راجعون